الفرق بين المدرسة الكلاسيكية والمدرسة السلوكية

شهد علم الإدارة تطورات كبيرة منذ نشأته الأولى كمجال علمي مستقل، حيث تعددت النظريات والمناهج التي سعت إلى تفسير كيفية عمل المنظمات وتوجيه سلوك الأفراد داخلها لتحقيق الأهداف المنشودة. ومن أبرز هذه النظريات التي تركت بصمتها العميقة في ميدان الإدارة: المدرسة الكلاسيكية والمدرسة السلوكية، وهما مدرستان فكريتان تمثلان مراحل تاريخية متعاقبة تعكس كل منهما فهماً مختلفاً لطبيعة العمل والتنظيم البشري. ومع أن كل مدرسة استندت إلى رؤى ومنطلقات نظرية وعملية مختلفة، إلا أنهما تمثلان معاً الركيزة الأساسية التي تطور منها علم الإدارة الحديث.

سيتناول هذا المقال تحليلاً معمقاً للفرق بين المدرستين من حيث النشأة والخلفية الفلسفية والمفاهيم الأساسية والرواد والأدوات المستخدمة والنظرة إلى الإنسان ودوره في العمل، فضلاً عن التأثيرات التي تركتها كل مدرسة على بيئة العمل الحديثة.

أولاً: نشأة المدرستين وسياقهما التاريخي

المدرسة الكلاسيكية

نشأت المدرسة الكلاسيكية للإدارة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، في ظل الثورة الصناعية الكبرى التي اجتاحت أوروبا وأمريكا. كانت المصانع تتوسع بسرعة، والطلب على الإنتاجية المرتفعة صار ضرورة ملحة، ما دفع الباحثين إلى التركيز على كيفية تحسين الكفاءة الإنتاجية من خلال تنظيم العمل وتقسيمه وتحديد المسؤوليات بدقة.

تمحورت المدرسة الكلاسيكية حول فكرة أساسية وهي تحقيق أقصى قدر من الكفاءة والإنتاجية من خلال التنظيم العقلاني للعمل، والاعتماد على مبادئ علمية في الإدارة. هذه المقاربة عكست التصورات العقلانية السائدة في ذلك الوقت حول أهمية التخطيط والانضباط والسيطرة لتحقيق النجاح.

المدرسة السلوكية

ظهرت المدرسة السلوكية في ثلاثينيات القرن العشرين كرد فعل مباشر على المدرسة الكلاسيكية. فقد أثبتت التجارب والممارسات أن العامل الإنساني لا يمكن اختزاله إلى آلة أو عنصر ميكانيكي في عملية الإنتاج. جاءت هذه المدرسة في سياق اجتماعي وفكري جديد، حيث بدأت تتبلور نظرة أكثر شمولاً للعامل باعتباره كائناً اجتماعياً له مشاعر ودوافع وسلوكيات تؤثر على أدائه وإنتاجيته.

المدرسة السلوكية كانت استجابة لتحديات الواقع العملي، خصوصاً تلك التي ظهرت في دراسات “هاوثورن” الشهيرة، والتي كشفت أن العوامل النفسية والاجتماعية في بيئة العمل لها تأثير بالغ في إنتاجية الموظفين، وهو ما أهملته المدرسة الكلاسيكية.

ثانياً: المفاهيم الأساسية والمنهجية

مفاهيم المدرسة الكلاسيكية

المدرسة الكلاسيكية للإدارة تعتمد على مفاهيم صارمة وواضحة تسعى إلى تنظيم العمل وتقسيمه إلى مهام محددة قابلة للقياس والمراقبة. من أبرز مفاهيمها:

• تقسيم العمل والتخصص: إذ يُفترض أن يؤدي تقسيم المهام إلى زيادة الكفاءة من خلال التخصص في أداء كل جزء من العملية.

• التسلسل الهرمي للسلطة: تنظيم دقيق للسلطات والمسؤوليات من الأعلى إلى الأسفل.

• الضبط والسيطرة: التركيز على الإشراف الصارم لضمان الامتثال للسياسات والإجراءات.

• المركزية في اتخاذ القرار: معظم القرارات تتخذ من قبل الإدارة العليا.

مفاهيم المدرسة السلوكية

أما المدرسة السلوكية فتعتمد على مفاهيم أكثر مرونة وإنسانية، أهمها:

• الدوافع والحوافز: الاعتراف بأن الإنسان لا يعمل فقط للحصول على الأجر، بل تحفزه الحاجة للإنجاز، والانتماء، والاعتراف.

• القيادة التشاركية: مشاركة العاملين في اتخاذ القرارات تعزز من التزامهم وتحفيزهم.

• التواصل الفعّال: بناء علاقات عمل صحية يقوم على تبادل المعلومات والثقة.

• الرضا الوظيفي: أحد أبرز المحددات التي تؤثر في أداء الفرد وانتمائه للمنظمة.

ثالثاً: النظرة إلى الإنسان في بيئة العمل

في المدرسة الكلاسيكية

تنظر المدرسة الكلاسيكية إلى الإنسان كعنصر إنتاجي، يهدف فقط إلى تنفيذ الأوامر وتحقيق الإنتاجية بأقل قدر من الخطأ. يفترض هذا النموذج أن العامل يستجيب للتحفيز المادي فقط، وأن الإدارة تعرف الأفضل دائماً، لذا يجب أن تخطط وتوجه وتراقب.

في المدرسة السلوكية

في المقابل، تتبنى المدرسة السلوكية نظرة إنسانية واجتماعية للفرد في العمل، وتقر بأن الإنسان كائن معقّد لا يمكن تحفيزه فقط من خلال الأجر أو العقوبات. الإنسان في هذا السياق يبحث عن التقدير والانتماء والاعتراف، ويتأثر بالبيئة الاجتماعية والمناخ النفسي في العمل.

رابعاً: أبرز رواد المدرستين

المدرسة الكلاسيكية – روادها:

• فريدريك تايلور: صاحب نظرية “الإدارة العلمية”، ركز على تحليل المهام ورفع الإنتاجية.

• هنري فايول: طوّر 14 مبدأً إدارياً، ما زالت تُدرّس حتى اليوم.

• ماكس فيبر: صاحب مفهوم “البيروقراطية” كنموذج عقلاني للهيكل التنظيمي.

المدرسة السلوكية – روادها:

• إلتون مايو: قاد تجارب هاوثورن التي كشفت أهمية العامل النفسي والاجتماعي في العمل.

• دوغلاس ماكجريجور: وضع “نظرية X” و”نظرية Y” لتفسير نظرة الإدارة للموظف.

• كريس أرجريس: ركز على أهمية التفاعل بين الفرد والتنظيم وضرورة تطوير الإنسان في بيئة العمل.

خامساً: الجدول المقارن بين المدرستين

سادساً: نقاط القوة والضعف في كل مدرسة

نقاط القوة في المدرسة الكلاسيكية:

• وضوح الهيكل الإداري والتنظيمي.

• تحسين الكفاءة عبر التخصص وتقسيم العمل.

• إمكانية تطبيقها بسهولة في المصانع والعمليات الروتينية.

نقاط الضعف:

• تجاهل البُعد الإنساني والاجتماعي.

• الجمود التنظيمي.

• المركزية الزائدة التي تحد من الإبداع.

نقاط القوة في المدرسة السلوكية:

• تعزيز العلاقة بين الفرد والمؤسسة.

• تحسين الأداء من خلال فهم الحاجات النفسية.

• المرونة والتكيف مع متغيرات بيئة العمل.

نقاط الضعف:

• صعوبة القياس الدقيق للعوامل النفسية.

• أحياناً تؤدي إلى ضعف الانضباط نتيجة التركيز المفرط على العلاقات.

• تحتاج إلى مهارات قيادية وتواصلية عالية يصعب توفرها دائماً.

سابعاً: التأثير على الفكر الإداري الحديث

رغم أن المدرستين تعكسان رؤى متباينة، فإن الفكر الإداري الحديث لا يمكن أن يُفهم إلا من خلال تكاملهما. اليوم، تعتمد معظم المنظمات على مزيج من المبادئ الكلاسيكية والتنظميات السلوكية.

فالإدارة الحديثة تستفيد من المدرسة الكلاسيكية في بناء الهياكل التنظيمية وتحديد المسؤوليات بوضوح، بينما تستعين بالمدرسة السلوكية لفهم الأفراد وتحفيزهم وقيادتهم بفعالية. وقد أدى هذا التزاوج إلى نشوء مدارس معاصرة مثل مدرسة النظم، والمدرسة الموقفية، والإدارة بالجودة الشاملة، والتي تؤمن بأن التنظيمات عبارة عن نظم معقدة يجب إدارتها بشكل مرن وإنساني في آن معاً.

ثامناً: الخلاصة العلمية

يُعد الفرق بين المدرسة الكلاسيكية والمدرسة السلوكية من أهم محاور الفهم العميق لتطور الفكر الإداري. فالمدرسة الكلاسيكية قامت على مبدأ الكفاءة والتنظيم العقلاني للعمل والإدارة، بينما ركزت المدرسة السلوكية على الإنسان وسلوكه وبيئته النفسية والاجتماعية. وبينما قد تبدو المدرستان متعارضتين، فإن واقع الإدارة الحديثة يبرهن على أن التكامل بين العقلانية والتنظيم من جهة، والفهم النفسي والاجتماعي من جهة أخرى، هو ما يصنع بيئة عمل ناجحة ومستدامة.

المراجع:

• George, C. S. (1972). The History of Management Thought. Prentice Hall.

• Mayo, Elton. (1933). The Human Problems of an Industrial Civilization. Macmillan.